صباح الخير يا حبيبي!
.
صباح الخير يا حبيبي!
صحوت من سباتي على تهويم نسمات ربيعية هاربة إلى عمق الشتاء, لتداعب صفحة خدي, وتعبث بشعيرات فودي, وتبعث الحياة في روحي, وتدغدغ مشاعري بتربيت ناعم, هادئ, منعش, يغري باستنشاق عميق لعبير الهواء الندي المبلل برطوبة الأحلام الجميلة, والخيالات الحالمة .. صحوت وبقيت في فراشي وكل شعيرة وخلية في جسدي تمارس عناقا عميقا دافئا حالما مع منابع الدفء في الغطاء ومفرش السرير من خلال تقلّب متكرر, وتشبث بأطراف الغطاء محكم ..
أغمضت عينيّ وتركت العنان لخيالي ليسرح في كون الجمال, ويقلب صفحات الذكريات الجميلة, ويعرض مشاهد حية لمواقف روحية خاصة نفيسة أودعتها خزائن قلبي, وأغلقت عليها أبواب حياتي, وأحكمت قفلها بمفاتيح أنفاسي وإرادتي وأسراري .. فأخذت أستعرضها كما يستعرض الشحيح ماله مطمئنا إلى خلو الجو من المنغصات وأعين الفضول, واختلاسات لصوص المشاعر والخصوصيات ..
وفي غضون ذلك ساحت روحي إلى عالم سحيق لا نهاية له, وأحسست بخدر في أطرف شراييني استسلمت له كل قواي المادية والمعنوية, وغبت في مجاهل من الإثارة .. وفي خضم هذه السباحة في الهواء تراءت لي من بعيد صورة ضبابية بيضاء مشوشة أخذت تدنو مني شيئا فشيئا, لتصفو شيئا فشيئا حتى توقفت أمامي في ساحة منيرة بلا مصادر إضاءة, معطرة بلا عطر ولا ورد ولا زهر, وإذا هي أنت بكل جمالك وجلالك وشعاعك المهيمن, المخدر, المعطل لكل قوى رائيك, أنت بكل وضوح وإشراق وحضور!
فخرجتِ من شرنقة براق الخيال الذي حملك على أنفاس الجمال ليحط بك أمامي, فأقبلت علي وكأنك قادمة من جحيم, وناجية من كارثة, أقبلت وفي عينيك تلهّف الموت, وفي أنفاسك شحوب الوجل, وفي قلبك فراغ التوجس, جلست أمامي وكنت ترتدين فستانا أبيض من أعلى كتفيك إلى أخمص قدميك, وشعرك معقوص على شكل ذيل حصان, وعلى جبينك انحدرت خصلة مقصوصة بعناية على حدود حاجبيك. وفي بنصرك الأيمن خاتم ذهي تتألق في فصه ألماسة حمراء تخطف الأبصار, وفي معصمك الأيسر سوار ذهبي مطعم بالفضة, ومزين بأحجار الفيروز والياقوت. ولفت انتباهي وجود شامة على سقف وجنتك اليسرى لم أعهدها من قبل!
جلستِ ولم تنبسي ببنت شفة لكن عينيك تزاحمت فيهما الكلمات, وأنفاسك تناثرت من خلالها المعاني, جلست وعيناك مسمرتان في عيني, فأحسست بشواظ سحرهما اللذيذ فأردت أن أقفز من مكاني لأعبر باحتوائك واحتضانك ومصافحتك عن أمواج السعادة التي غمرتني لهذه المفاجأة السعيدة غير المنتظرة, لكني لم أستطع أن أتحرك من مكاني, ففي داخل استنفرت كل قواي لتدير عضلاتي التي ستحرك جوارحي لتنفيذ ما يرسمه عقلي بإيعاز من قلبي, لكن وياللفجيعة! لم أستطع التحرك وكأنني أصبت بالشلل, فأردت أن أستعيض عن الحركة بالكلمة المعبرة, وياالمفجأة التعيسة أيضا! فلساني لم يستطع أن يقرأ الكلمات التي كتبتها مشاعري, أو يترجم الأحاسيس التي أفرزتها شعيرات فؤادي! وأخير انطلق لساني ولكن ليس بإرادة قلبي بل بإرادة أخرى لا أعلم مصدرها, فقلتُ وكأني أنفذ أوامر مضطهد وضع فوهة مسدس ضخم بين أذني ورأسي: من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وماذا تريدين؟ فضاقت عدستا عينيك من موجة ألم هذا التجاهل, وهذه اللغة الجارحة, وتلك الفظاظة المرعبة, فانعصر قلبي وتساقطت قطراته على معدتي لتشعل فيها كانونا تتفجر فيه النار بكل عنفوان, وعندها ارتعشت شفتاك وقالت شيئا لم أتبيّنه لخفوته بسبب انقطاع الهواء من رئتيك, وبسبب تعطل أعصاب فكّيك جراء هذا الألم, ثم فجأة وضعت يدك فوق طحالك لتخففي من تقلصاته التي نشطت وشنت غاراتها بعنف! فترنحتِ وكدت تقعين على الأرض ومن لؤم الاضطهاد لم أهب لمساعدتك على الوقوف وحمايتك من السقوط كما تمليه الغريزة ناهيك عن المشاعر, بل بقيت أتأمل وكأن الأمر لا يعنيني, فأحسست أنك تحتضرين جسدا وروحا, ولعل المفاجأة الأليمة في موقفي عجلت بتجهيز روحك لتُزف إلى الموت! فغاضت الدماء في وجنتيك, وترهلت العروق في كفيك, وغابت إشراقة الحياة من جبينك, وانطفأت أنوار عينيك, وذبلت وردتا شفتيك, وشاخ عنقك الجميل, فكأنما زاد عمرك أربعين سنة في لحظة من غمضة!
لقد أحسست حينها أن بداخلي مخلوقا بشعا غريبا ليس إنسانا ولا حيوانا يقهقه ويرقص سعادة لمرآى اضمحلال شبابك, وانحسار جمالك, وكأنه ينتقم منك, ويستمتع بلوك كبدك وشرب دمائك! ما هذا الحقير الذي استوطن روحي وسيطر على مفاتيح التحكم في مشاعري وجوارحي؟ لقد أصبحت روحي أسيرة مكبلة بسلاسل ضخمة لا تتيح لها التحرك, بل وصل الاحتلال إلى تشفير أعصاب عيني لتمنعها من بث الرسائل التي يمليها قلبي, فصارت جامدة خالية من العواطف.لماذا؟ وما كل هذا؟ أجئت لتشهدي محاكمة غير عادلة القاضي فيها هو الخصم والجلاد؟ أجئت لتموتي على نطع قلبي القتيل, وعلى مرأى من جمهور ضخم من أحاسيسي التي تلبستها أرواح شريرة؟ إن قتلك بهذه الصورة إنما هو قتل لروحي وجسدي بصورة مضاعفة!
ماذا ارتكبتِ ليكون الانتقام منك بهذه الصورة البشعة المؤلمة؟ وماذا ارتكبتُ أنا ليكون التنفيذ على يدي إمعانا في إذلالي وقتلي؟ ومن ذا الذي سيطر علي واحتوى قواي واحتل وظائف جسدي, وعطل دفاعاتي, وحبس عواطفي, وأخفى شعوري وأحاسيسي؟
وفي خضم هذه الأفكار, وبينما كنتِ تصارعين السكرات استجمعت قوتك فجأة وركّزت النظر إلى شيء خلفي, فرفعت رأسك وصرت تجاهدين للفت انتباهي إلى خطر داهم يهددني, لقد قرأت في عينيك إشارة التحذير من الخطر وكلها توسّل بسرعة تلقي الإشارة! فالتفت فجأة! ولكن بعد فوات الأوان .. فقد انطلقت زخات من رصاص لتخترق دماغي! والغريب أن مشهد الرشق استمر وأنا أشعر به وهو يخترق رأسي ولما طال تنبّهت فرأيت المنبه بجوار سريري يصيح معلنا السابعة صباحا!
ثبت إلى رشدي وظللت ألملم شتات روحي بعد تلك المشاهد المرعبة, فنفضت غبار ذلك المشهد, وعدت إلى دفء الغطاء فوق الفراش الوثير, وتذكرت نسيمات الربيع التي أخذت بيد خيالي إلى ذلك العالم السحيق الذي قابلتك فيه تلك المقابلة المرعبة, فحمدت الله على السلامة من عذاب حياة ذلك الطيف. وفي هذه الأثناء وفي تزامن روحي عجيب لمعت شاشة جوالي بإضاءة محتفية بقدوم رسالة, ففتحها بفضول ضعيف خال من الاهتمام, لكن ذلك الاهتمام تعاظم ليصل إلى درجة ارتعاش يدي وهي تفتح الرسالة عندما رأيت أن رقم المرسل ينتهي بالرقمين 93, فتحتها وإذا فيها: صباح الخير يا حبيبي!
فأخذت نفسا عميقا عميقا سحبت فيه كل ذرات الأكسجين في الغرفة ثم رفعت بصري إلى لا ناحية, وافتر ثغري عن بسمة الرضا, وانتشت مشاعري, وأحسست بنشاط مفاجئ تضخه دقات قلب منتعش, فقمت من سريري طاردا إلكترونات الدفء بعد أن أفقت من خمرها, وذهبت إلى الحمام فاغتسلت, وغيرت ملابسي, وحلقت وجهي ثم عطرته بعطر كوروس After Shave, ثم لبست ثياب الخروج ورششت على عنقي رشتين من عطر ألور الفضي, وركبت سيارتي منطلقا إلى عملي, وأنا أترنم:
صباح الخير يا حبيبي
صباح الحب يا حبيبي!