المرأة و الصِراع النفسي .. نوال السعداوي سأحاول أن أنقل من هذا الكتاب فقط الجزء الثاني و هو نماذج من بعض مشاكل الفتيات والنساء اللائي أجرت معهن الدكتورة حوار وهذه الحالات تشبه الكثير من الحالات الموجودة في مجتمعاتنا و يا للأسف, ولا يزال المجتمع يمارس نفس الأعمال على النساء فقط لأن الذكر هو المسيطر و لأن المجتمع ذكوري بحت أتمنى نعمل حوار حول هل حالات و إذا في حدا بيعرف حالات مشابه إنو يذكرها إلنا و أتمنى الفائدة للجميع .
الحالة الأولى.زينب
هي زوجة في الرابعة والعشرين من عمرها, شاحبة الوجه, منكسرة العين, قالت لي أنها خائفة من أن تفقد عقلها. وسألتها عن مظاهر فقدان العقل التي تخافها. فقالت أنها حين تحتضن طفلتها لترضعها تشعر برغبة في أن تضغط عليها حتى تقتلها. وأنها من شدة هذه الرغبة التي سيطرت عليها أصبحت تخاف أن ترضع طفلتها, بل أحياناً ما ترتجف أصابعها حين تلمسها. ومن شدة خوفها من أن تقتل ابتنتها أصبحت لا ترضعها ولا تلمسها وتتركها وحدها تبكي. وقد أخذها زوجها إلى عدد من أطباء النفس وحصلت على جميع أنواع العلاجات ابتداءً من الجلسات الكهربية حتى الأقراص المهدئة دون فائدة.
ويتلخص تاريخ حياة زينب في أنها نشأت في أسرة من أب وأم, و أربعة من الأبناء و البنات, وكانت هي البنت الكبرى. كان أبوها متوسط التعليم ويعمل في شركة صناعية كمشرف أو ملاحظ عمال. ولم يكن مرتب الأب يكفي نفقات الأسرة, فكانت الأم تعمل أحياناً كخياطة وتحيك الملابس على مكنتها بالبيت للأسر المجاورة. ونشأت "زينب" على الطاعة و احترام أبيها وأمها ودخلت المدرسة الثانوية في الحي المجاور (باب الشعرية). وكان أبوها (و أمها أيضاً) يخاف عليها من صبيان الحي, وخاصة أن إشاعة ترددت في الحارة أن بعض الرجال عثروا على مولود "لقيط" بجوار الجامع و أنهم سلموه للشرطة. ومن شدة خوف الأب كان يترك عمله أحياناً ويرافق ابنته إلى المدرسة, وكان يشدد عليها الرقابة, ولا يسمح لها بالخروج مع زميلاتها. وكانت زينب لا تعترض على أي أوامر من أبيها.
حصلت زينب على الثانوية العامة, ولم يعطها أبوها فرصة للتفكير في مستقبلها, فإذا به يسعى لتحصل ابنته على وظيفة بالمصنع الذي يعمل به و أعتقد الأب أنه يضرب عصفورين بحجر واحد. فإن مرتب ابنته سوف يساعده في نفقات الأسرة, كما أن وجودها معه في الشركة نفسها سيجعلها دائماً تحت مراقبته ويطمئن عليها دائماً.
واشتغلت زينب في مصنع الشركة ثلاث سنوات, لا يزيد عملها عن تعبئة بعض الزجاجات وتغليفها. وفي تلك الأثناء حصل أخوها الذي يصغرها بعامين على الثانوية العامة, وبرغم أن مجموع درجاته كانت أقل من مجموع درجاتها إلا أن الأب شجعه على دخول الجامعة, وفعلاً التحق الابن بكلية العلوم. وكانت زينب تدفع كل مرتبها لأبيها, وكان الأب يعطيها مصروفاً شهرياً أقل مما يعطي أخيها. وكان يقول لها أن أخاها شاب وطالب جامعي ويحتاج إلى مصروفات أكثر منها.
وكان لزينب ابن خالة تخرج حديثاً من كلية الهندسة, وعين في منصب ممتاز (في عين أبيها). وأحست زينب أن أباها يسعى بكل الطرق لتزويجها من ابن خالتها. وفعلاً استطاع أن يزوجها له, ولم يكن لزينب أن تخالف أي أمر لأبيها و كان يقول عنها أنها ابنة مثالية.
وبعد الزواج تركت زينب وظيفتها في الشركة, وتفرغت لزوجها, الذي كان يعاملها معاملة طيبة بسبب طاعتها وهدوئها.
و تخرج أخوها في كلية العلوم, وكان متفوقاً فعين بالجامعة, واشترى سيارة, وأصبح موضع فخر الأب والأم وأفراد الأسرة كلها.
وأنجبت زينب طفلتها الأولى, وبدأت تنتابها حالة الخوف بالتدريج حتى وصلت إلى حالة الخوف التي وصفتها سابقاً, وهو الخوف من أن تقتل طفلتها. وتقول زينب هنا :
" تصوري يا دكتورة أنا أفكر في قتل ابنتي وقد أنفق زوجي علي الكثير عند الأطباء للعلاج بلا فائدة. والغريب أن أبي يتعاطف مع زوجي, ويقول لي بشدة وقسوة: مرض نفسي أيه وكلام فارغ أيه؟! حياتك تتمناها أية امرأة في العالم. لا أدري كيف يمكن لواحدة مثلك أن تكون تعيسة إلى هذا الحد. إن عليك أن تسجدي لله شكراً لأنه منحك أباً حافظ عليك ثم زوّجك لرجل ناجح طيب هيأ لك حياة مريحة. ماذا تريدين أكثر من ذلك؟
وتردد زينب لنفسها أمامي: " صحيح يا دكتورة ماذا أريد أكثر من ذلك. إنني يجب أن أكون سعيدة ولكن لا أدري لماذا أصبحت أخاف حتى من السير بمفردي في الشارع".
وسألتها: لماذا تخافين.. الإنسان لا يخاف إلا إذا شعر بخطر.
قالت: نعم. أشعر بخطر.
قلت: أين هو الخطر؟
قالت: لا أدري, ولكني أخاف.
سألتها: وماذا قال لك الأطباء النفسيون؟
قالت: قالوا لي أنه ليس هناك خطر في حياتي, ولا في الشارع, وعلي ألا أخاف, وكتبوا لي الأقراص المهدئة.
وحينما نظرت في عيني زينب رأيت الخوف والذعر. إنها تخاف فعلاً, لكن خوفها ليس لخطر خارجي نراه بأعيننا ولكن خوفها بسبب خطر داخلي, في داخل نفسها. هذا الخطر لا نراه نحن وليس واضحاً وضوح سيارة تجري بسرعة في الشارع و تكاد تدوسنا, أو رصاصة منطلقة من مسدس في وجهنا, ولكنه خطر موجود ومحسوس داخل الشخص الذي يعاني منه. ونحن عادة نقتنع بالخوف الذي يحدث للإنسان بسبب خطر خارجي. نحن لا نقول عن أي شخص أنه مجنون إذا صرخ مذعوراً في الشارع بسبب سيارة مسرعة كادت تدهسه, لكننا نقول أن زينب مجنونة لأنها تشعر بالخوف ونحن لا نرى أي خطر حولها.
إن عدم رؤيتنا للخطر لا يعني أن الخطر غير موجود. قد يكون الخطر موجوداً ورؤيتنا هي القاصرة وهي العاجزة عن رؤيته أو إدراكه. وهذا هو ما حدث لزينب. لقد تصور أباها أن الخطر الوحيد الذي يمكن أن يهدد حياتها هو أن تحمل سفاحاً (كالأم المجهولة لذلك اللقيط الذي وجد بجوار الجامع), ولم يدرك على الإطلاق الخطر من إرغامها على قطع دراستها وطموحها رغم ذكائها وتفوقها, ولم يدرك على الإطلاق الخطر من فرض زوج عليها لا تريده ولا تحبه, وتصور أنها يجب أن تسجد للــه شكراً لأنه منحها هذا الأب الذي حافظ عليها, ثم زوّجها لرجل ناجح طيب. ماذا تريد أكثر من ذلك؟
وفي رأيي أن هذا الأب كان خطراً على ابنته كالسيارة المسرعة التي تدهس الإنسان وتدوس على جسده, بل أن خطره كان أشد, لأن الخطر الذي يدوس النفس أشد فتكاً بالإنسان من الخطر الذي يدوس على جسده فقط.
وبينما أنا أفكر في هذا سمعت زينب تقول لي:" أتعرفين يا دكتورة كم أتمنى أن أشفى, كم أتمنى أن يزول عني هذا الخوف, كم أتمنى أن أسير في الشارع كما يسير الناس, و أرضع ابنتي ككل الأمهات دون أن تراودني فكرة خنقها. إني أتمنى الشفاء بأي ثمن.. بأي ثمن. لقد قل لأحد الأطباء اخلع عيني من رأسي أو اقطع ذراعي, و أعطني دواءً يشفيني".
وصدقت زينب بالطبع, فأنا أعرف أن فقدان أي عضو من أعضاء الجسم لا يساوي شيئاً بالنسبة لفقدان النفس. ولهذا فإن السيارة التي تدهس شخص في الطريق العام وتقطع ذراعه أو ساقه أو عين من عينيه فإن خطرها أقل بكثير من أن يرزق الطفل بأب كمثل أبي زينب.
والغريب أننا جميعاً لا نرى خطر مثل هذا الأب. إنه في نظرنا أيضاً أب مثالي فهو لا يسكر, لا يسهر, ولم يطلق زوجته, ولم يعربد, ولم يسرق, ولم يختلس, ولم يبطش, ولكنه كان أباً يعمل في شركة طوال النهار, وينفق كل مرتبه على أسرته, ويحافظ على أولاده وبناته, ويحميهم من كلام الناس أو السمعة السيئة, ويختار لهم أزواجاً طيبين ناجحين يضمنون لهم الراحة والحماية. مثل هذا الأب في عيوننا جميعاً ليس إلا أباً مثالياً و أباً محباً لبناته و أولاده. ولكن كم من الجرائم ترتكب باسم المثالية و باسم الحب. إن ما حدث في حياة زينب هو جريمة قتل. لقد قتلها أبوها. وهي تعيش مع زوج يشبه أباها. إنه زوج مثالي محب لزوجته. إنه لا يسكر ولا يسهر ولا يعربد وينفق كل مرتبه عليها وعلى البيت والطفلة. ماذا تريد أكثر من ذلك؟ ما الذي يخيفها؟! إن حياتها آمنة تماماً, خالية من الحوادث و المفاجآت, خالية من التحديات و الصعوبات, خالية من التفكير في شيء يحدث. لأن شيئاً لم يحدث.. لأن شيئاً لن يحدث.. لأن حياتها خالية خاوية, كعدم الحياة كالموت تماماً.
وهنا حدثت الصدمة النفسية لزينب, وتسمى في علم النفس بصدمة " انعدام المؤثرات في الحياة", وهي تشبه صدمة الموت, لكن الجسد يظل على قيد الحياة. لقد اكتشفت زينب أن حياتها خاوية تماماً. وأنها لم تعد تنتظر شيئاً من حياتها, فالمستقبل سيكون كالحاضر كالماضي ولا شيء سيحدث بغير هذا الخواء في حياتها, والاستسلام, و الطاعة المستمرة لأبيها ثم لزوجها. إن شيئاً لم يحدث ليغير هذا وسوف تصبح حياتها لا شيء في المستقبل, كما كانت لا شيء في الماضي.
وكانت زينب في أعماق نفسها لا تكف تقارن نفسها بأخيها, الذي أصبح ملء السمع والبصر بتفوقه الفكري في الجامعة. وقال لها أحد الأطباء النفسيين الذي ذهبت إليه أن ذلك بسبب عقدة الحسد الذي تشعر به البنت نحو أخيها الولد بسبب امتلاكه عضو الذكر (أفكار فرويد) لكنها ذهلت لهذا الرأي وقالت له أنها لم تطرأ على بالها تلك الفكرة أبداً. ولكنها تشعر أنها حرمت من التعليم العالي وأنها كانت أكثر تفوقاً منه وكان يمكن أن يكون لها مستقبل أفضل من مستقبله. وأنها تشعر أنه من الظلم أن تحرم من طموحها الفكري. وأن يشغلها أبوها في الشركة, وتدفع مرتبها الشهري من أجل أن يدخل أخوها الجامعة و يتعلم هو وينجح, ويرقى, وتظل هي راكدة في بيت الزوجية الآن.
والغريب أن هذا الطبيب فسر رغبتها في قتل طفلتها على أنها نوع من العدوان بسبب الكبت الجنسي الذي تعانيه. وكان هذا الطبيب قد سأل زينب عن علاقتها الجنسية مع زوجها فقالت أنها لا تفكر في الجنس إطلاقاً, إذا رغب زوجها فيه فإنها تمارس معه الجنس, وإذا لم يرغب فهي لا تفكر في الموضوع. واستنتج أنها تعاني من برود جنسي وأن هذا البرود هو سبب الاضطراب النفسي الذي تعاني منه.
ولم يدرك الطبيب المعالج أن البرود الجنسي عند زينب ليس إلا نتيجة الموت النفسي والفكري الذي حدث في حياتها. إن الإنسان (امرأة أو رجلا) لا يمكن أن يقتل فكرياً ونفسياً وتظل رغبته الجنسية صاحية وحدها, متأججة أو مشتعلة بالحياة. إن النشاط الجنسي في حياة الإنسان جزء من النشاط الفكري والنفسي, ويدركه الموت والبرود لا شك حين يدرك الموت والبرود النشاط النفسي والفكري.
إ ن خوف زينب من رغبتها المسلطة عليها لقتل طفلتها لم يكن إلا تعبيراً عن إحساسها بأن هذه الطفلة البنت ستقتل مثلها, وستعيش الحياة التي هي تعيشها, وأنها ما دامت ستموت كما هي ميتة, فالأفضل لها أن تموت وهي طفلة صغيرة وقبل أن تتعذب, بدلاً من أن تمر بالمراحل جميعها التي مرت بها.
إن زينب قد أدركت الخطر المحدق بحياة ابنتها, هذا الخطر الذي لا يراه معظمنا ومعظم أطباء النفس. لكن زينب قد أدركت الخطر لأنها عرفته وعاشته وعانت منه, ولأنها أيضاً إنسانة ذكية ولها عقل يفكر. لكنها في الوقت نفسه تدرك أن هذا الخطر يملأ الوجود, وأنه أقوى منها, وأقوى من ابنتها, ولذلك فهي تشعر أنها لا تمتلك في مواجهة هذا الخطر إلا أن تحمي ابنتها منه, وذلك بأن تخفيها من الوجود تماماً.
وهذا هو سبب خوفها من السير في الشارع. كانت زينب حين تسير في الشارع تخاف من أن تلقي بنفسها تحت العربات. حينما طلبتُ منها أن تفسر لي ماذا تشعر وهي تسير في الشارع, قالت: اشعر كأنني سأسقط تحت العربات.
وسألتها: كيف تسقطين؟
قالت: لا أدري, ولكني أحس أن قوة خفية تدفعني من الخلف تحت العجلات.
إن هذه القوة الخفية لم تكن إلا رغبة زينب نفسها في أن تقتل نفسها. وهي رغبة منطقية جداً تتمشى مع رغبتها في قتل ابنتها. والخوف الذي تشعر به أيضاً خوف منطقي جداً, لأنها تحب نفسها, وتحب طفلتها أيضاً. وبسبب ذلك الحب هي تحاول أن تحمي نفسها وتحمي طفلتها من الموت. وكم يكون شاقاً على الإنسان أن تضيق به سبل الحياة جميعاً فلا يجد طريقاً يسلكه إلا الموت, أو لا يجد طريقاً يهرب به من الموت إلا الموت ذاته.
وقالت لي زينب بعينين منكسرتين حزينتين جداً: الموت أرحم يا دكتورة مما أنا فيه ليتني أموت, أعطيني دواء يميتني و يريحني.
ولم يكن في استطاعتي أن أكتب لها أي دواء وماذا كنت أكتب لها تلك الأقراص الجديدة في الطب النفسي التي يسمونها أقراص السعادة. إن مثل هذه الأقراص في رأيي تشبه عصا الحاوي حين يرفعها في الهواء ويقول إنها ستتحول إلى عصفور.
لم أكتب لها أي دواء, لكني قابلتها ثلاث مرات, وفي كل مرة كنت أتحدث معها ما يقرب من ساعتين حاولت معها أن ألقي بعض الضوء على حياتها وأسباب خوفها. فإن الأسرة التي نشأت بها لم تكن أسرة ريفية في الريف حيث يكون للنساء نوعاً من الحرية في الذهاب إلى الحقل والعمل والاختلاط بالناس ذكوراً وإناثاً. ولم تكن من الأسر المثقفة المتحضرة نوعاً ما من حيث يكون للنساء نوع من الحرية في الذهاب إلى النوادي أو الجامعة أو العمل. ولكنها تلك الأسرة المتوسطة أو تحت المتوسطة, التي تعيش في المدن, والتي تسيطر عليها التقاليد المتزمتة و الآباء أنصاف المتعلمين الذين هم أشد جهلاً من الجهلاء الذين لا يتعلمون شيئاً و يتصرفون بفطرتهم وطبيعتهم. ويتصف معظم هؤلاء الآباء بالإضافة إلى التزمت, يتصفون بالتطلع إلى الطبقة الأعلى. بل إن تزمتهم الشديد ليس له من سبب سوى تطلعهم الشديد. إن الأب لا يتردد لحظة في التضحية بابنته من أجل الصعود درجة في السلم الاجتماعي وقد فعل ذلك أبو زينب. لقد استغلها ومص دمها, من أجل أن يصعد درجة في المجتمع.. استغلها قبل الزواج حين قطع تعليمها وشغلها واستولى على مرتبها. واستغلها باسم الزواج حين باعها لزوج من الطبقة الأعلى. كل هذا الاستغلال يحدث في جو من التزمت الأخلاقي الشديد, والطاعة العمياء للأب التي يسمونها في تلك الطبقة احترام الأب.
وسألت زينب:" كنت تحترمين أباك؟"
قالت بصوت ضعيف: "جداً, ولقد عودنا على أن نقف حين يدخل, وأن نقبل يده حين نصافحه".
سألتها: " وأمك؟"
قالت:" كانت أمي امرأة طيبة. مكافحة, تشتغل طوال النهار في البيت والمطبخ, وبالليل تجلس على الماكينة تحيك الملابس".
سألتها:" ماذا كان شعورك نحوها؟"
قالت:" شعور عادي. لم أكن احترمها مثل أبي, لكني كنت أشفق عليها وأحياناً حين تقف في صف أبي أشعر أني أكرهها".
وسألتها:" ألم تشعري بالحب لأحد من الشباب؟"
قالت:" لا. كنت أخاف من الصبيان, وكان أبي ينبهني دائماً للمحافظة على نفسي وألا أثق بأي شاب. وفعلاً كنت أشك في أي شاب".
سألتها:"والجنس؟"
قالت:" مع زوجي"
قلت:"هل كان هناك جنس آخر؟"
قالت:"لا"
قلت:"إذن مع زوجك."
قالت: الحقيقة يا دكتورة أنا لا أحب الجنس. أبي كرهني في جميع الرجال.
سألت: هل أجروا لك عملية ختان؟
قالت: بالطبع هذا تقليد في العائلة كلها.
سألتها: هل شعرت بالخوف يوم عملية الختان؟
ضحكت وقالت: بالطبع, هربت من الداية فوق الدولاب, لكنهم امسكوني في النهاية.
كانت زينب امرأة طيبة هادئة, لم يكن من الممكن لها بعد التربية التي تربتها أن تكون امرأة عنيدة رافضة أو ثائرة على الأوضاع في حياتها.
إن عجزها عن الرفض والتمرد والثورة هو الذي أصابها بذلك العصاب Neuroses أو حالة الخوف والفكرة المتسلطة التي تخاف منها.
إنها لو استطاعت أن ترفض وأن تثور لتخلصت من هذا العصاب. لكن مثل هذه التربية الصارمة المغلقة من الخارج بقشرة من الحب تخدع الإنسا ن وتوهمه أن كل شيء على ما يرام, وأنه ليس هناك سبب يجعله يثور. وتمضي السنيين على هذا النحو ولا يفيق الإنسان إلا على صدمة الموت, واكتشاف الحقيقة المرة, أنه فقد نفسه و أنه مات, وهو على قيد الحياة. كما حدث لزينب. إن الحياة القاسية الصعبة الواضحة القسوة أفضل بكثير من هذه الحياة, لأن الإنسان يستطيع أن يثور عليها, ويجد من الأسباب الواضحة التي تجعله يثور مبكراً في حياته قبل أن يستفحل الأمر, ويحدث الموت.
إن الموت في حياة الإنسان أنواع متعددة, أحدها هو الموت البيولوجي. وهو موت الجسم. وأن الناس (بالذات الرجال) يحرصون على أن يعيشوا اجتماعياً ومهنياً وسياسياً وبيولوجياً أيضاً. إن الموت النفسي هو أن يعيش الإنسان بيولوجياً فقط, ويموت في المجالات الفكرية والنفسية والاجتماعية.
إن كثيراً من الناس يتصورون أن الموت البيولوجي هو الموت الوحيد الذي ممكن أن يحدث لهم. ولهذا هم يموتون نفسياً وفكرياً و لا يصابون بالعصاب, أو لا يشعرون بالخطر لأنهم لا يرونه وغير واعين به. إن مرض العصاب ليس إلا "نور أحمر" تشعله النفس علامة الخطر. إن المحظوظين فقط من الناس هم الذين يرون "النور الأحمر" هؤلاء الذين حظوا بقدر كبير من الحساسية و الذكاء, والذين ارتفعوا كثيراً عن مجرد أن يعيشوا بيولوجياً, أو يأكلون و يشربون و ينامون ويتناسلون فقط.
وحينما نظرت في عيني زينب رأيت الحساسية والذكاء وأدركت أن زينب لن تشفى من عصابها وحالة الخوف عندها إلا بأن أؤكد لها أن الخطر موجود فعلاً, وأنها على حق في خوفها, وأنها لكي تنقذ نفسها من الموت المحدق بها لابد أن تعيش فكرياً ونفسياً و اجتماعياً, وذلك عن طريق العمل.
ولمعت عيناها ببريق خاطف وقالت: "يا ريت يا دكتورة, يا ريت تشوفي لي شغل, أنا أريد أن أعمل." وطلبت من زينب أن تبحث عن أي عمل لها وأنا بدوري سأساعدها. وفعلاً وجدت زينب عملاً في إحدى الشركات التجارية. لم يكن هو نوع العمل الفكري الذي تريده لكنها زارتني بعد بضعة شهور. كانت مرحة نشيطة وأدركت أنها اجتازت الأزمة بنجاح وقالت لي زينب بحماس:" إن عملي روتيني ممل يا دكتورة لكني اشتريت بكل ماهيتي كتباً وبدأت أقرأ...."
وسكتت لحظة ثم قالت بشيء من التردد والخجل:" وقد بدأت أكتب أيضاً..."
وسألتها: ماذا كتبت يا زينب؟
قالت بخجل: قصيدة شعر.
سألتها: ولماذا تخفضين صوتك هكذا. هل كتابة الشعر عملية مخجلة.
قالت: لا يا دكتورة, لكني وأنا تلميذة بالمدرسة الثانوية كتبت قصيدة شعر و اخفيتها بين كتبي لكن أبي عثر عليها, فقد كان يفتش كتبي من حين إلى حين. وحين قرأها مزقها, وأمرني بأن أذاكر فقط, و ألا أشغل ذهني بهذه الأمور الفارغة.
وضحكت زينب وهي تناولني قصيدتها وقالت:" هذه القصيدة ليست جيدة يا دكتورة, لكني سأكتب قصيدة أخرى. إني أشعر بالراحة و أنا أكتب." قرأت قصيدة زينب, كانت أفضل في رأيي من كثير من القصائد التي أقرأها منشورة في بعض المجلات والصحف. وقلت لها:" إنها قصيدة جيدة يا زينب وسأساعدك على نشرها في إحدى المجلات."
وهنا صاحت زينب من شدة الفرح:" صحيح يا دكتورة! صحيح يا دكتورة القصيدة أعجبتك؟!"
قلت لها: أفضل من بعض القصائد التي تنشر في المجلات. فلمعت عيناها بالسعادة, وتنهدت تنهيدة عميقة, وكأنما تقول لنفسها: أخيراً...... أخيراً..... أعثر على نفسي!
و أصبحت زينب صديقة لي حتى اليوم, ولم تعد تشعر بالخوف و أصبحت تحتضن طفلتها بكل حنان, وفي المرة الأخيرة التي رأيتها فيها قالت لي:" تعرفي يا دكتورة, أنا لم أكن أتصور أبداً أنني سأشفى.
قلت: أنت لم تكوني مريضة يا زينب. أنت كنت شديدة اليقظة ولذلك أدركت الخطر من حولك ومن حول ابنتك.
قالت: تعرفي يا دكتورة.. أنا سأبذل كل جهدي لأجعل ابنتي تعيش حياة أخرى غير الحياة التي عشتها. سأوفر لها أحسن تعليم وأحسن كتب ولن أزوجها, ولكن سأتركها هي التي تقرر حياتها بنفسها.
سألتها: وما رأي زوجك؟
قالت وهي تضحك: إن زوجي رجل طيب يا دكتورة, ليس شديداً مثل أبي كما أنه فرح جداً حين شفيت ويقول لي دائماً: اللي إنت عاوزاه اعمليه.
يتبــع......